تنبيه العشق .. [ الداء القاتل ]

بسم الله الرحمان الرحيم ..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..

وقفتُ لأسوّد ما يجول في خاطري .. وها أنا جعلت من
العشق موضوعا لخطّ بناني وطريقا يسيرُ عليه قلمي .. لكنّهُ توقّف فجأة
وقال لي: ماذا تريدُ أن تكتُب وأنت لم تعرفُ عنِ العشقِ شيئا ولا عايشتهُ
أصلا ؟!
قلت لهُ : أيّ عشق تقصد ؟! أمثل عشق عنترة وقيس، أذلك العشقُ المردي الذي ملك تلك القلوب .. فتفكّر القلم هنينهة وقال: أقدِم وأنا صاحبُك ..

فوقفتُ مُؤمّلا في قصص العاشقين لا أدري مُنطلقي، فقال القلم : يا فتى
أصعبٌ عليك أن تكتب في العشقِ وقد أصبح قصّةً سرمديّة نعيشُ أحداثها،
وغَدَا واقعا نعاصرُه في كلّ مكان تتقلبّ فيه الأبصار، وقد أغنى الواقعُ
عن كلّ مثال .. فمضيتُ والقلمُ يسندني ليخُطّ بناني ..

•••

اعتبر العشق شكلا مفرطا من أشكال
المحبة، وفي الوقت الذي يُنظرُ فيه إلى الحب على أنه أسمى عاطفة يتحلى بها
الإنسان، فيُنظرُ إلى العشق باعتباره حالة مرضية تحدث نتيجة للمغالاة
الشديدة في الحب..

مما ينعكس ذلك بآثار سلبية على شخصية العاشق تنعكس كاضطرابات جسمية، فضلا
على الاضطرابات السلوكية والتي كثيرا ما تدفع الشخص المصاب لأن يرتكب
تصرفات غير عقلانية .. كتقبيل مجنون ليلى لكلبِ أهل ليلى لأنّه يُذكرّه
بها بعد رحيلها ..

العشق .. مرض من أمراض القلب، مُخالف لسائر
الأمراض: في ذاته و أسبابه و علاجه، وإذا تمكنّ واستحكم عزّ على الأطبّاء
دواءه، أعيا العليل داءه.. بحيثُ يستولي المعشوق على قلب العاشق فلا يتركُ
مكانا لغيرِه، ولا يغيبُ التفكير فيهِ عن الذهنِ.

هذا المرض لا تعالجُه عمليّات التشريح، بل هو بحاجة إلى طبّ خاصّ بالنفوس ما يُعرف بالطب الروحاني الذي يسعى إلى إصلاح القلوب لأنّها محلّ نظر الله تعالى ..

مال كثير من الناس ميلا دائما بقلب هائم في غمراتِ العشقِ، إلى أن بلغ بهم المقام تفضيل المماتِ على الحياة إذا ما هجرهم محبوبهم ..
وهلاكي في الحبِّ أهونُ عندي .. من حياتي إذا جفاني الحبيبُ

عجيبٌ أمر هؤلاء، في كلّ يوم يُعاتِبون الدّهر وأمرهم يحارُ فيهِ اللبيبُ،
وعناؤهم لا ينقضي وما لهُ نهاية .. قد سلب العشقُ الألباب وماذا يبقى
للحيّ بعد أن سُلب لبّه، فالقرآن يُخاطبُ الألباب، فإن هي ذهبت فعليك وعلى
الدنيا السلام ..

فترى العاشق الولهان لا يلذّ له مطعم ولا يهنأُ له شراب إلّا إذا ظفِرَ بنظرة من معشوقِه، مجانين هم ..
وكلّ النّاس مجنون ولكن .. على قدر الهوى اختلف الجنونُ

العشقُ داء قد استفحل خاصّة في عصرنا، فما استأسد على القلوب إلّا لفراغها من حبّ الله جلّ وعلا، فإن أُسِر الملك سقطت المملكة ، فقد قال النبي ﷺ: « ألا وإنَّ في الجسدِ مُضغةً إذَا صَلَحَتْ صلح الجسد كلّه، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، ألا وهي القلب » [رواهُ البخاري] .. كما أنّ من الأسباب التي زادت شرارة هذا الداء اشتعالا واضطراما الفهم السقيم لمفهوم الحبِّ ..

ممّا أضرّ بأهل العشق أنّهم .. هووا، و ما عرفوا الدّنيا و ما فطنوا
تفنى عيونهم دمعا، وأنفسهم .. في إثر كلّ قبيح وجهُهُ حسنُ












































التوقيع

تابع ..













فمنّا من ظنّ أنّ الحبّ أن تضفر بصاحبة تُبادلها أطراف الحديث في خلوة
محرّمة - وما خلا رجلٌ بأجنبيّة إلّا والشيطانُ ثالثُهما- ولنا في قصّة
نبي الله يوسف -عليه السلام- لعبرة، ثمّ إذا نُصِحَ قال: هي زوجة المستقبل
.. والمسكينة قد صدَّقَتْ الكاذب، فما اتخذها إلا مطيّة لقتل وقتِه، وحتّى
مِنَ الفتيات من سلكن نفس السَّبيل.. ومتى أفضى الحرامُ إلى حلال ؟!

الكثيرُ قد تأثّروا بالمسلسلات التي تسرُد قصص حبّ واهية .. ولنا في
السيرة النبويّة أجمل قصص الحبّ، وفي سير السلف الصالح ما يُغنينا عن قصّة
عنترة وقيس ومجنون ليلى .. وأمثالهم كثير ..

لو أدرك عنترة الإسلام ما كبا .. وما قال: اذكري يا عبل أيّام الصّبا

قد أسكر العشق عقول الكثيرين، فلم يستفيقوا من سكرتهم حتّى عند غرغرة
أرواحهم .. يُلقنّون الشهادتين فتأبى أنفسهم إلّا ذكر اسم معشُوقهم .. فما
أتعسهم ..

قال ابن تيميّة رحمهُ الله : ( إن الذي يورثُه العشقُ من نقص العقل والعلم، وفسادِ الدين والخلُق،
والاشتغال عن مصالح الدين والدنيا أضعاف ما يتضمنّه من جنسٍ محمود. وأصدقُ
شاهدٍ على ذلك ما يُعرف من أحوالِ الأمم، وسماعِ أخبار الناس بذلك
وتجرتِه، ومن جرّب ذلك أو عاينه اعتبر بما فيه كفاية؛ فلم يوجد قط عشق
إلّا وضرره أعظمُ من منفعتِه ) .


▪ ▪ ▪

لكن أصبح همّ الأكثرين الظّفر بكلّ حرام لأنّه الحبّ، وهذا شرعُ إبليس لا لذّة فيه إلآ في الحرام
.. وقد غاب عنهم أسمى معاني الحبّ: حبّ الوالدين، حبّ المساكين، حبّ الزوج
لزوجته والزوجة لبعلها، حبّ المكارم والفضائل، حبّ المعالي، حبّ المروءات،
حبّ الطبيعة .. وحبّ العلم .. بل غاب عنهم أعظم حبّ : هو حبّ اللهِ عزّ وجلّ ..

إنّ العشقُ نقطة في بحر الحبِّ، ومن لم يدخل جنّة الحب لا ينالُ القرب،
فبالحبّ عُبد الرّب وتُرك الذنب .. عقل بدون حبٍّ لا يُفكرّ وعينُ بدون
حبِّ لا تُبصِر ..

قال ابن القيم رحمهُ الله : (القلب هو إناءٌ والأشربة متعددة ، فأيّ شراب ملأه لم يبق له موضع لغيره ) ..

يا شأسُ ! لولا أنّ سلطان الهوى .. ماضي العزيمة ما تملّكا عنترا

إنّ الإنسان إذا اقتحم بحر العشقِ ولطمتهُ أمواجه فهُو إلى الهلاكِْ أقربُ
منهُ إلى السلامة .. فالعشقُ داءٌ يُذهبُ الدِّين والدُّنيا، وماذا يبقى
للإنسان إذا ما ضيّع دينه !!

قال ابن القيم رحمهُ الله مبيّنا خطر العشق على الدين: ( وحبّ الصور المحرمّة وعشقها من موجبات الشرك، وكلما كان العبدُ أقرب إلى الشرك أبعد عن الإخلاصِ كانت محبته بعشقِ الصُّور أشدّ ) .. والحب الفاسد ينصرفُ عن القلبِ بالحب الصالح - أو كما قال شيخ الإسلام - ..




قال محمد بن إبراهيم الحمد : ( ثمّ إنّ الغالب على من يتكلمون في الحبِ أنهم يحصرونهُ في زاوية ضيقة هي أضيق معاني الحب ويغيبُ عن بالهم الحب الواسع ) ..

تابع ..











يحبُّهم ويُحبونه ) .. ومن أسباب علاج هذا الداء الإخلاص في الإنابة إلى الله عزّ وجلّالدعاء ..

وغضِّ البصر فأولّ شرارة من هذا الداء انطلقت من ثغر العين، فقد أوصى إبليس جنده فقال : (
امنعوا ثغر العين أن يكون نظره اعتبارا بل اجعلوه نظرا تفرجا و استحسانا و
تلهيّا، فإن استرق نظرة عبرة فافسدوها عليه بنظرة الغفلة والاستحسان
والشهوة، فإنه أقرب إليه وأعلق بنفسه، وأخف عليه ..
ودونكم ثغر العين، فإن منه تنالون بُغيتُكم، فإني ما أفسدت بني آدم بشيء مثل النظر،
فإني أبذر به في القلب بذر الشهوة، ثم اسقيه بماء الأمنية، ثم لا أزال
أعده و أمنيه حتّى أقوّي عزيمته، وأقوده بزمام الشهوة إلى الانخلاع من
العِصمة ) ..

فقد تنصر جماعة من المسلمين بسبب إطلاق البصر، كما حصل لبعض المُؤذنين حين
أبصر امرأة جميلة على سطح، ففُتِن بها ونزل ودخل عليها وسألها نفسها،
قالت: نصرانيّة، فإن دخلت في ديني تزوجت منك ففعل، فرقى في يوم إلى السطح
فسقط منه فمات ..

قال ابن القيم رحمه الله : ( و قد جعل الله
سبحانه البصر مرآة القلب، فإذا غضَّ العبدُ بصرهُ غضّ القلبُ شهوته
وإرادتهُ، و إذا أطلق العبدُ بصرهُ أطلق القلبُ شهوته )

•••

وثاني ثغر هو ثغر الأذن إذ عن طريقه ينتقل
الكلام الفاحش البذيء من الأغاني وأشعار الغزل الماجن ليؤثر على الباطن ..
فكم من سالم هلك بعد أن سمع مثل هذا الكلام، فاستحسنهُ ومُزِج مع ما
تهواهُ النفس .. فمال إليهِ وأعرض عن قولِ ربّه وقول رسوله ﷺ .. فأصبح
يستثقلُ هذا الكلام ويتلذّذُ بسماعِ كلّ كلامٍ قبيح حتّى قُذف في قلبه
النِّفاق وغدا من العُشّاق الفُسَّاق ..

والجزاءُ من جنس العمل ..

ولو علِم العشّاقُ ما أُعدّوا له لتركوا كلّ هوى منغصِّ .. فما خلِق
الإنسانُ ليلقى الهوى، و إنّما هُيّء لأمر عظيم لا يبلغُه إلاّ بمخالفتِه
للهوى كما قيل :

قد هيّأوك لأمر لو فطِنت له .. فاربأ لنفسِك أن تحيا مع الهمل

والذي ذلّ للهوى لا يكون أهلا للرياسة ولا القيادة .. فلا تكون لآرائه قيمة ولا يكون أهلا للاستشارة ، قال عزّ وجلّ : « وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلبَهُ عَنْ ذِكْرْنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطَا » ..

وأما اتّباعُ كلّ هوى فهو من المهلكات، كما جاء في الحديث أنّه ﷺ قال : « ثلاثٌ
منجيات وثلاثٌ مُهلكات: فأمّا المُنجيات فتقوى الله تعالى في السّر
والعلانيّة، والقولُ بالحقّ في الرضا والسخط، والقصدُ في الغنى والفقر،
وأمّا المهلكات فهوى متّبع، وشحّ مُطاع، و إعجاب المرء بنفسِه » ..

وكم من متبّعِ لهواه سدّت عنهُ أبواب التوفيق، قال الفضيل ابن عياض رحمهُ الله : ° من استحوذ عليه الهوى واتباعُ الشهوات انقطعت عنهُ موارد التوفيق ° ..

لو كان للعٌشاقِّ عقلٌ ولبّ يتفكّرون به لعرفوا ما قدرُ الخطر الذي أحاط
بهم، فما أحكم الشيطان لجامهُ على العبدِ إلآّ لبُعدِه عن ربّه، وسلمّهُ
إلى نفسِه وأعرض عنهُ .. فتركهُ في ساحة العشقِ يتخبّطُ كالسكران .. وقد
أجمع العارفون على: أنَّ التوفيق أن لا يكِلكَ الله تعالى إلى نفسِك، و أن ّالخُذلان أن يكلك الله تعالى إلى نفسِك ..

فإذا ما كان لهؤلاء مقامٌ عند ربّهم هل يُعرِض عنهم ؟! .. والنفسُ إن لم تشغلها بالحقّ شغلتك بالباطل ..لهذا قيل عن العشقِ بأنّه: ( حركة قلب فارغ ) .. فاملأهُ بحبّ عفيف يزيدُ القلب إيمانا والحياة سعادة قبل أن يتسلّط عليك الهوى على حينِ غِرّة فتكون كما قال القائل :

أتاني هواها ولم أعرف الهوى .. فصادف قلبا خاليا فتملّكا

نسألُ الله أنفة من الرذائل، وهمّة في طلب الفضائل ، إنّهُ قريب مجيب ..

دمتم في حفظِ الله ورعايتِه ..
وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربّ العالمين ..



وقضت سنّة الله في خلقِه أن جعل لكلّ داء دواء، وجعل القرآن شفاء وهدى
للنّاسِ .. فحثّ الخلق على حبّه وطلبِ رضاه ليفوزوا بكرامة : ( والصدق في ذلك ولزومِ بابه طمعا في مغفرتِه ورحمتِه، والاستعانة به في دفع هذا الضرر بكثرة